الثلاثاء، 29 سبتمبر 2009

توابع حرب اليونسكو....

توابع حرب اليونسكو فى الغرب: تكثيف مشاعر المرارة بين شعوب الجنوب..وإعلان الحرب الثقافية ضد إسرائيل

ينص الميثاق التأسيسى لليونسكو على أنه "لما كانت الحروب تتولد فى عقول البشر، ففى عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام". وبهذا المبدأ التأسيسى شهدت المنظمة على مدار الخمس جولات الإنتخابية لاختيار المدير العام الجديد صراعاً محموماً تركز على المرشح المصرى الذى أشارت نتائج الجولة الأولى كما أشار الإعلام الغربى وقتها إلى تقدمه وحصوله على تقديرات إيجابية. الصراع الذى اشتعل فى معركة اليونسكو لم يكن فقط الأول من نوعه فى تاريخ المنظمة و لكنه قدم بامتياز نموذجاً فريداً لصراع الحضارات وهيمنة الاعتبارات السياسية على المنظمة الأممية التى تعمل من أجل إيجاد "الشروط الملائمة لإطلاق الحوار الأصيل القائم على احترام الكرامة والقيم المتبادلة لكل حضارة وكل ثقافة".

الصدع بين الشمال و الجنوب
أهم سمات صراع الحضارات والهيمنة السياسية على معركة انتخابات اليونسكو هو ما رصدته جريدة الفاينانشيال تايمز التى أشارت إلى الصدع الذى يتزايد بين الشمال و الجنوب. فبينما تناسى الغرب و إعلامه مساوىء الشيوعية التى تربت المديرة المنتخبة الجديدة لليونسمو إيرينا بوكوفا فى أحضانها فى بلغاريا و روسيا، لم يتمكن الغرب أن يغفر للمرشح المصرى تصريحاته حول التطبيع مع إسرائيل قبل حلول سلام يكفل للفلسطينيين حقوقهم. وهو نفس الشعور الذى عير عنه المدون السياسى البلغارى إيفو إيندزيف الذى أشار إلى أن المناههضين للشيوعية البلغار لم يفرحوا بفوز بوكوفا و إنما قلقوا للرسالة الملتبسة التى وصلتهم من أن "الغرب يمكن أن يتغاضى عن الماضى الشيوعى لمرشح ولكنه لا يتقبل عربى مناهض لإسرائيل".

وأشارت الفاينانشيال تايمز إلى المرارة التى تشعر بها الدول النامية وإلى المفاجأة التى تعرض لها الكثبرون ممن توقعوا فوز المرشح المصرى خاصة و أن العديد من التصريحات من داخل اليونسكو أكدت عدم أخذ ترشيح إيرينا بوكوفا على محمل الجد. ففى الوقت الذى ترأس تسعة أشخاص المنظمة منذ إنشائها عام 1946، لم يمثل دول الجنوب النامية غير اثنين فقط. وعلى الرغم من الكاريزما التى يتمتع بها المرشح المصرى وفقاً لتصريحات العديدين ممن عايشوا المعركة الإنتخابية، و على الرغم من الجهود الدبلوماسية المصرية و العربية المكثفة، لم تنجح مصر و لم ينجح العرب فى اجتياز اختبار رفض التطبيع مع إسرائيل الذى اجتازه مديرها السابق السنغالى أحمد مختار أبو الذى انتقد إسرائيل بشدة مما أدى إلى انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة لمدة 19 عاماً. هذه المرة لم تنسحب الولايات المتحدة، و لكنها هددت بسحب تمويلها و خاضت حرباً دبلوماسية و إعلامية شرسة وأفرد إعلامها المئات من المقالات و المواقع المعادية للمرشح المصرى مثل موقع "أمريكيون من أجل اليونسكو".

رابطة مكافحة التشهير باليهود
المتابع للمعركة الإنتخابية فى اليونسكو لا يمكن مهما كان رفضه لنظرية المؤامرة إلا أن يندهش من حجم التركيز على المرشح المصرى وهو ما لم يحظ به أى من المرشحين الثمانية الآخرين. بل أن هناك مواقع كاملة على شبكة الانترنت شيدت من أجل محاربة المرشح المصرى مستخدمة المدونات و الفيسبوك و التويتر وغيرها من الأدوات الجاذبة للقراء. ومن أبرز المواقع التى كثفت الحملة على المرشح المصرى موقع رابطة مكافحة التشهير باليهود التى يديرها الأمريكى أبراهام فوكسمان ذو الأصل البولندى اليهودى و الذى هاجر للولايات المتحدة عام 1950 واشتهر بانتقاده للرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر عندما ألف كتاب "فلسطين: السلام و ليس التفرقة العنصرية" والذى اتهمه من خلاله أنه يروج لمشاعر معادية للسامية. وهو أيضاً مؤلف كتاب "الأكاذيب القاتلة: اللوبى الإسرائيلى وأسطورة سيطرة اليهود" ينفى فيه وجود تأثير لللوبى اليهودى على السياسة الخارجية الأمريكية.

ونظم موقع رابطة مكافحة التشهير باليهود حملة بعنوان "عارضوا فاروق حسنى" وتحت شعار ماذا يمكن أن يحدث إذا ترأس الرجل الذى اختارته مصر و الذى ينادى بإحراق الكتب المنظمة التى تحمى تراث الحضارة العالمية؟ وقام الموقع بتوجيه رسالة لوزراء خارجية الدول الأعضاء فى اليونسكو لمقاطعة المرشح المصرى الذى سيكون انتخابة بمثابة إضفاء شرعية على مشاعر العداء لليهود بدلاً من محاربتها. وقام الموقع بتحميل المقالات المعادية للمرشح المصرى و للكتاب الذين يدافعون عنه كما حدث مثلا عندما نشرت النيويورك تايمز مقال رأى للكاتب روجر كوهين أبدى فيه إعجابه بمراجعة المرشح المصرى لتصريحاته حول حرق الكتب اليهودية و اعتبر أن اختياره سيوفر فرصة رائعة لسد الفجوة التقليدية بين الغرب و العالمين العربى و الإسلامى. وأضاف الموقع رابط يضم تصريحات المرشح المصرى المعادية للسامية و لدولة إسرائيل. كما خصص الموقع روابط تؤرخ لأهم ما كتب ضد فاروق حسنى منذ بدء الحملة ضده. وبعد فوز المرشحة البلغارية إيرينا بوكوفا فى الجولة الخامسة، استمر الموقع فى بث أخبار مفادها أن مصر و إعلامها ونخبتها الثقافية غارقين فى نظريات المؤامرة لتجاوز مرارة هزيمة مرشحها. ومن المواقع الأخرى موقع "انقذوا اليونسكو" وهو موقع يديره بعض الطلبة الفرنسيين والذى ركز على كل الانتقادات الموجهة لشخص المرشح المصرى من خلال منصبه كوزير للثقافة.

حملة ليفى-لانزمان-فيزل
وكانت الحملة الدولية ضد ترشيح فاروق حسنى قد ظهرت بوضوح منذ مايو الماضى عندما قام ثلاثة مثقفين فرنسيين، هم الكاتب برنارد هنرى ليفى، و السينمائى كلود لانزمان، و الروائى الحاصل على جائزة نوبل للآداب إيلى فيزل، بكتابة افتتاحية لجريدة لوموند الفرنسية شنوا فيها هجوماً على شخص فاروق حسنى لكونه غير جدير بمنصب مدير عام اليونسكو بسبب تاريخ من التصريحات ضد اليهود و ضد إسرائيل. ثم قام موقع رابطة مكافحة التشهير باليهود بنشر مقال لأبراهام فوكسمان فى يونيو الماضى بعنوان "الاختيار الخاطىء لليونسكو". وبعدها قامت مجلة الفورين بوليسى الأمريكية بنشر مقال للكاتب رايموند ستوك فى أغسطس الماضى وصفت فيه فاروق حسنى بأنه المتحدث باسم فوبيا معاداة اليهود بين المثقفين المصريين وأفردت مقتطفات من أحاديث للوزير المصرى يصف فيها الثقافة الإسرائيلية بأنها ثقافة مغرورة و عنصرية وغير إنسانية وتقوم على سرقة حقوق الآخرين و نسبتها لنفسها. وتوالت الحملات منذ ذلك الوقت بعد أن أفردت أجهزة الإعلام الغربية مساحة هائلة للمرشح المصرى تحت عنوان "حارق الكتب".

واستشرس الكاتب الفرنسى برنارد هنرى ليفى فى متابعة هجومه على فاروق حسنى عن طريق الرد على كل من يدافع عنه. ونشر فى السابع عشر من سبتمبر مقال بعنوان "دعونا لا نضع اليونسكو بين أيدى شرطى الثقافة" رد فيه على كل من يقول أن المرشح المصرى تراجع عن تصريحه بصدد حرق الكتب ووصف هذا التراجع بأنه تكتيك سياسى و أكذوبة وأنه اعتذار كتبه له هنرى جينو كاتب الخطب السياسية للرئيس الفرنسى نيكولاس ساركوزى. ثم انتقل ليفى ليقدم قائمة باتهامات وجهت لوزارة الثقافة المصرية فى عهد فاروق حسنى وللحريات فى عهد الرئيس المصرى ليؤكد أن خسارة المرشح المصرى لن تعنى خسارة مصر كدولة ولكن خسارة النظام ومرشحه. وأشار أن الأوان قد فات لإنقاذ كل ما يمكن أن يقال عن فقدان مرشحى الجنوب و العالم العربى لأنه كان ينبغى للمغرب أن تقدم مرشحتها عزيزة بنانى و للبرازيل والجزائر أن تساند مرشحيها.

دور المعارضة المصرية
المتابع لمعركة اليونسكو لا يفوته أيضاً أن يلحظ الدور الكبير للمعارضة المصرية فى تقديم معطيات للحملة الدولية ضد فاروق حسنى و التى اعتمدت بشكل كبير على انتقادات لكتاب مصريين و لمواقع مصرية مثل موقع الإخوان أونلاين و موقع حركة كفاية. فالمرشح المصرى الذى بدأ مشوار ترشيحه بمجابهة حملة داخلية تتهمه بالسعى لمحاباة الغرب و التطبيع مع إسرائيل، انتهى به الحال بمجابهة حملة تتهمه بمعاداة إسرائيل. وبين بداية المشوار و نهايته دور كبير للمعارضين المصريين. فقد استندت الحملة الدولية ضد فاروق حسنى على تاريخ من السجالات بينه و بين معارضيه، و من الاتهامات الموجهة لوزارته كرمز من رموز الحكومة المصرية بالوقوف ضد التعددية السياسية و الإدارية وضد الحريات بالإضافة إلى تهم الفساد.

واستندت العديد من المواقع الأجنبية المناهضة للمرشح المصرى إلى سلسلة من المقالات التى كتبها كتاب مصريون معارضون. ومن أبرز هذه المقالات مقال نشرته الكاتبة المصرية المقيمة فى نيويورك منى الطحاوى فى جريدة الواشنطن بوست الأمريكية بعنوان "حارق كتب فى اليونسكو؟" انتقدت فيه اختيار المرشح المصرى الذى وصفته بأنه ليس فقط معادياً للسامية شأنه شأن النظام المصرى و إنما هو أيضاً معادي للحريات مثل حرية نشر و توزيع الكتب حيث أمر بمصادرة رواية دان براون "دا فينشى كود" عام 2006 لمهادنة المعارضة القبطية، وثلاثة كتب مصرية عام 2001 لمهادنة الجماعات الإسلامية. و تنهى منى الطحاوى مقالها قائلة "مناصرو فاروق حسنى يقولون أنه آن الأوان لمدير ثقافى عربى للأمم المتحدة. ربما. ولكن بسجله، لا يستحق فاروق حسنى أن يترأس اليونسكو. الفخورون منا بتراثنا العربى الملىء بالفنانين الذين يتحدون و ينيرون أكثر مما يقيدون بحجة حماية قيمنا يعرفون أن فاروق حسنى ليس الرجل الذى ينبغى أن يمثلنا".

من مفارقات معركة اليونسكو أنها تعرضت للمرشح المصرى بانتقادات و نقيضها فى الوقت نفسه، فهو متهم بالتطبيع مع إسرائيل و معاداتها، و متهم بمحاربة الجماعات الإسلامية و مهادنتها. ومن المفارقات أيضاً اعتماد الحملة ضده على محاكمة مصر كدولة وكنظام. ومن المفارقات أيضاً أن تصريح فاروق حسنى الذى تراجع فيه لم يكن غير مسبوق بين شخصيات عالمية أساءت للديانات والثقافات الأخرى وتراجعت.

ربما تكون معركة اليونسكو قد انتهت، غير أن توابع هذه المعركة تستمر على صفحات الجرائد و المواقع الإسرائيلية التى حولت صدمة المصريين لهزيمة مرشحهم إلى إعلان حرب ثقافية ضد إسرائيل وهو ما أكده موقع واى نت نيوز وأشارت إليه الجيروزاليم بوست. كما تستمر توابع هذه المعركة فى تكثيف مشاعر المرارة بين الشعوب الجنوبية تجاه المنظمة الأممية التى باتت أكثر من ذى قبل تبتعد عن تمثيلهم وتكيل بمكيالين للمحاسبة على غرار توجهات مجلس الأمن الدولى و موسم محاكمه الدولية التى انصبت على رأس العالم العربى فى الوقت الذى عجز فيه عن تفعيل أى من قراراته حيال إسرائيل.

جريدة القاهرة
29 سبتمبر